في هذا العالم الذي نعيش فيه، يبدو كل شيء مشوشًا، كما لو أننا عائمون في بحر من الفوضى الرقمية. لا نرى سوى ظلال لأنفسنا، تتراقص على شاشات لا تنتهي، نحاول أن نلتقط فكرة، شعورًا، أو حتى معنى. لكن، ماذا لو كانت هذه الظلال هي كل ما نعرفه عن أنفسنا؟ نحن الآن في حالة من الاستهلاك المستمر، لكن هذا الاستهلاك ليس ماديًا فقط، بل فكريًا وثقافيًا أيضًا. نحن نتغذى على خوارزميات تظن أنها تعرفنا، تظن أنها تقترب منا، لكنها تبتعد أكثر فأكثر. تخلق لنا واقعًا موازيا لا نعرف كيف نخرج منه، واقعًا يُشَكّل رغباتنا وأفكارنا وكأنها مفروضة علينا. هل شعرت يومًا بأنك لست أنت؟ أن هذه الشخصية التي تظن أنك تعيشها، هي مجرد انعكاس لما استهلكته من كل ما حولك؟ شخصياتنا تتكون من تجاربنا، لكن ماذا لو كانت هذه التجارب مجرد صور زائفة؟ تجارب مكررة، لا تحمل الفروقات الحقيقية. نعيش اللحظات نفسها، نتأثر بالأشياء نفسها، لكن هل تغيرت شخصياتنا حقًا؟ أم أننا مجرد نسخ مشوهة من بعضنا البعض؟ الحياة في هذا العصر أصبحت أشبه بمسار متاهة، أعمق وأعمق، لكن لا نهاية لها. نحن نركض وراء الأفكار، نبحث عن الرغبات، ومع كل خطوة، نغرق أكثر في هذه الدوامة الرقمية. هل نحن من نصنع هذه الرغبات، أم أن هذه الخوارزميات هي من تزرعها فينا، وتُصممها على قياسنا؟ أحيانًا، أتساءل: هل أفكاري حقًا ملكي؟ أم أنها مجرد أصوات استلهمتها من هذا الزمان الرقمي؟ هل أحب اللون الأسود؛ لأنه يعكس جزءًا مني، أم أنه ببساطة أحد الألوان التي سلبتني إياها هذه الشبكات؟ هل أنا موسيقار أم مجرد صورة لشخص يواجه هذه الأمواج المتلاطمة من "المحتوى"؟ هل نحن نتبع شغفنا أم أننا نحاول فقط أن نكون جزءًا من العرض، جزءًا من تلك اللعبة التي لا تنتهي في هذا العصر الذي يتسارع بشكل غير طبيعي؟ عندما أتأمل كل هذا، أشعر بأنني غريب عن نفسي. أبحث عن نفسي في كل شيء، ولكنني لا أجد سوى ظلال. كلما حاولت أن أكون الأفضل، شعرت بأنني أبتعد أكثر. هل هذا يعني أنني لست كما أعتقد؟ هل هذه الشخصيات التي أعيشها هي ما يجعلني أنا؟ أم أنني فقط موجود في قلب هذه الفوضى؟.
الصراع النفسي بين الرغبة والخوارزميات في عالم السوشيال ميديا، حيث تُحدد تفضيلاتنا وتوجهاتنا بما تراه الخوارزميات الأكثر جذبًا، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل أنا أختار ما أحب حقًا، أم أن المواقع هي التي تختار لي ما يجب عليّ أن أحبه؟ كلما تصفحت منصات مثل إنستغرام، تيك توك، وفيسبوك، تزايدت تلك اللحظات التي أشعر فيها أنني لست في المكان الذي أريد أن أكون فيه. تدفعني الخوارزميات باستمرار نحو صور وفيديوهات وحملات تريندات يتداولها الجميع، وتغرقني في دوامة من الصور التي يجب عليّ أن أتبعها، إذا أردت أن أكون جزءًا من هذا العالم الرقمي. لكن هل هذه الرغبات التي تتولد في داخلي هي حقًا ما أريده؟ أم أنني فقط أتبنى ما تفرضه هذه الخوارزميات على عقلي؟ في كل مرة أضغط فيها على زر الإعجاب، أو أشارك محتوى، يأتي ذلك الشعور المزعج بأنني لا أؤثر في اختياراتي كما كنت أظن. مع كل "تريند" جديد يظهر على منصات السوشيال ميديا، يبدأ عقلي في التفكير بشكل مختلف. هل أنا حقًا أحب هذا النوع من الموسيقى أو الموضة أو حتى الأفكار التي تنتشر؟ أم أنني فقط تأثرت بما أراه في هذه التطبيقات التي تضعني في دوامة من الصور والمحتوى الذي يعكس ما يعتقد الجميع أنه "يجب أن يعجبني"؟ ومع مرور الوقت، تبدأ الحدود بين ما هو "أنا" وما هو مفروض عليّ من هذه الخوارزميات في التلاشي. أتساءل: هل أنا الشخص الذي اخترت أن أكونه، أم أنني مجرد نسخة من كل ما غُرِس في عقلي عبر هذه المنصات؟ هل حقًا يعبر ما أشاركه مع العالم عن شخصيتي الحقيقية، أم أنني أؤدي دور يلائم الصورة التي فرضتها عليّ تلك المواقع؟ هنا يظهر الصراع الداخلي. جزء مني يشعر أنه يتبع ميوله الخاصة، لكن الجزء الآخر يعرف أن هذه الميول ليست بالضرورة اختياراته الحقيقية. تصبح هذه الصراعات أكثر وضوحًا كلما اقتربت من مفترق الطرق بين ما أريد أن أكونه وما تريده الخوارزميات لي. في نهاية الأمر، هل سيكون لدي الشجاعة لأتحرر من هذه الأنماط التي يفرضها عليّ هذا الفضاء الرقمي، وأختار طريقي الخاص؟ أم أنني سأظل محاصرًا في لعبة الصور والتفاعلات التي تتحكم فيها الخوارزميات، حتى تصبح هي من تحدثني؟... في نهاية الأمر، هل سيكون لدي الشجاعة لأتحرر من هذه الأنماط التي يفرضها عليّ هذا الفضاء الرقمي، وأختار طريقي الخاص؟ أم أنني سأظل محاصرًا في لعبة الصور والتفاعلات التي تتحكم فيها الخوارزميات، حتى تصبح هي من تحدد ني؟ لكن ماذا لو كانت هذه الخوارزميات تعكس ما أريده في أعماقي؟ هل أستطيع أن أفرّق بين ما هو حقيقي بالنسبة لي؟ وما هو مجرد استجابة لما يعرضه العالم الخارجي؟ وهل يمكن أن تكون رغبتي في متابعة “الترندات” هي في الواقع رغبة حقيقية أم مجرد امتثال لما أراه أمامي؟ وإذا كنت أتبع ما يفرضه الآخرون، هل أنا بذلك أفقد نفسي؟ أم أنني في الواقع اتكيف مع العالم الذي أعيش فيه، فهل هذه هي الطريقة التي يجب أن أكون عليها؟ أحيانًا، يبدو أنني أعيش في متاهة من الخيارات المتناقضة: هل أترك هذه التطبيقات التي تستهلكني؟ أم أنني يجب أن أظل موجودًا هناك؛ لأن العالم اليوم لا يمكنه العيش دون هذه الفضاءات؟ هل يمكنني فعلاً أن أكون "أنا" في هذا المكان، أم أنني في الأساس مجرد صورة رقمية متداولة؟ ثم، لماذا أشعر بالحاجة المستمرة لمقارنة نفسي بالآخرين؟ هل لأنني فعلاً بحاجة إلى المقارنة؟ أم أن هذه الخوارزميات تعلمت كيف تغذي هذا الشعور في داخلي؟ لماذا أصبحت كل لحظة، وكل فكرة تتحول إلى منافسة، إلى سباق مع الزمن، إلى شيء يجب أن أظهره للعالم؟ أحيانًا ألتقط لحظات من الوضوح، وأشعر أنني قد اكتشفت الطريق، لكن في اللحظة التالية، تتسلل الأفكار المتناقضة مجددا: هل أنا فقط أتبنى ما هو رائج، أم أنني ببساطة أختار ما يناسبني في تلك اللحظة؟ هل هذه أفكار حقيقية أم أنني تأثرت بما يقال لي؟ هل أحتاج إلى هذه الضغوط الخارجية لأعيش؟ هل أنا شخص مستقل أم أنني مجبر على الانخراط في هذه الدوامة؟ أتراءى لي في كل زاوية من زوايا هذا العالم الرقمي أفكار جديدة، واختيارات مختلفة، وشكوك تلو الأخرى. هل ما أعيشه هو حياتي حقًا، أم أنني مجرد متفرج على عرض مستمر لا أستطيع الهروب منه؟ هل يمكنني أن أكون شخصًا حقيقيًا في هذا العالم المليء بالخيارات المعلبة، أم أنني مجرد دمية في يد الخوارزميات التي تصوغني وفقًا لما يرونه مناسبًا؟ وبينما تواصل التفاعل مع هذه المواقع، تزداد الأسئلة: ماذا إذا توقفت عن المشاركة؟ ماذا لو تركت الهاتف جانبًا؟ هل سأشعر بالراحة، أم أنني سأشعر بالفراغ، لأنني أصبحت جزءًا لا يتجزأ من هذا الكائن الرقمي الذي يتغذى على الإشعارات والتفاعل المستمر؟ كل خيار أقدمه يولد تساؤلات جديدة. كل خطوة تقربني من الإجابة تجعلني أدور في حلقة مفرغة. هل أنا "أنا"؟ أم أنني انعكاس لما يُعرض عليّ؟ كيف أستطيع أن أميز بين ما هو حقيقي وما هو مفروض عليّ؟ كثير من الأسئلة، ألم في رأسي، تعقيد لا يطاق. هل أنا "أنا" حقًا؟ هكذا يبدأ الصراع الداخلي الذي يعصف بالعقل في كل لحظة، وفي النهاية لا تجد إجابة واضحة. ولكن في الواقع، هذا الاضطراب ليس فقط صراعًا بين الذات والآخرين، بل هو انعكاس لمتلازمة قديمة تُدعى "متلازمة المحتال". هذه المتلازمة التي تجعلنا نشك في جدارتنا في كل لحظة، حيث نظن أننا لا نستحق المكان الذي وصلنا إليه، وأننا مجرد دمى تتحرك وفقًا للمعايير التي فرضها علينا المجتمع. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، لأن هذا التردد في الثقة بالنفس يضيع في فوضى أكبر بكثير. تتحول كل لحظة من حياتنا إلى تساؤل عمّا إذا كنا نستحق ما نملك، هل هذه حياتنا حقًا أم أننا فقط نؤدي دورًا فرضه علينا العالم؟ من أين جاءت هذه القناعة بأننا لا نملك الحق في أن نكون كما نريد؟ ألا نرى أننا، في نهاية الأمر، نرتدي أقنعة؟ أعيادنا، أفراحنا، حتى لحظات الفشل؛ كلها محكومة بما يظنه الآخرون منا. اللوم الآن ليس موجهًا نحو النفس فقط، بل نحو العالم الذي خلق هذا التوتر. لقد حاصرنا أنفسنا في دائرة من الفشل والشعور بالانعدام، وليس لأننا غير قادرين، بل لأننا تربينا على فكرة أن النجاح هو أن نكون مثل الآخرين. فما الذي يميزنا عنهم إذا كنا فقط نكرر ما يفعله الجميع؟ هذا المجتمع هو الذي زرع فينا فكرة أن النجاح لا يكون إلا بتطابقنا مع معايير محددة، وعندما نخرج عن هذا النمط، نشعر وكأننا لسنا جزءًا من هذا النظام. ولكن هل كان هذا خيارنا؟ أم كان فرضًا من الخارج؟ فلم العالم! فلتهدم هذه الصور النمطية التي فرضت علينا، فلتهدم تلك الأفكار التي سجنونا بها. لأن العالم في نهاية الأمر هو الذي لا يتوقف عن تأكيد الصورة التي يجب أن نكون عليها، بينما الحقيقة أننا جميعًا نعيش في وهم، متوهمين أن ما نراه هو الواقع، بينما نحن ضحايا الخوارزميات التي تربطنا بأفكار ومعتقدات لا تنتمي إلينا. نحتاج إلى شجاعة كبيرة للابتعاد عن هذا التكرار المزعج، للتمرد على القوالب الجاهزة، لأننا في نهاية الأمر لا نملك حرية الاختيار التام في هذا العالم الذي يحدد لنا كل شيء. المجتمع يفرض علينا أن نكون "محتالين" في كل لحظة، نرتدي أقنعة نحاول بها إقناع أنفسنا والآخرين أننا ننتمي، بينما نحن في الحقيقة غرباء في عالمنا. نعم، سألت الكثير من الأسئلة، ولكن هذا طبعي، أنا إنسان فضولي جدًا. منذ صغري، كنت أبحث عن كل ما هو غير تقليدي، لا أكتفي بما يقدمه لي العالم، بل كنت دائمًا أرغب في معرفة كيف يعمل كل شيء. كان والدي يعلم بحبي للعبة السيارات ذات التحكم عن بُعد، ويجلب لي واحدة مع كل رحلة عمل، لكن ما كان مميزًا بالنسبة لي هو أنني لم أكن أراها مجرد لعبة للأطفال. لم يكن الأمر عن الانغماس في اللعب بقدر ما كان عن محاولة فهم الآلية التي تجعل هذه السيارة تتحرك، وتلك البطارية تعمل، وكيف تنسق القطع الإلكترونية معًا لتصبح سيارة تتحرك عن بعد. على عكس الأطفال الذين كانوا يكتفون باللعب في الحديقة أو في غرفهم مع هذه الألعاب، كنت أنا أجلس على الأرض وسط قطع الألعاب المفككة، أفتحها وأستخرج مكوناتها، أضع أيديي في الدوائر الكهربائية الصغيرة وأسأل: لماذا هذه القطعة هنا؟ ماذا لو غيرت هذا الجزء؟ ماذا لو صغّرت هذا العنصر ليصبح أسرع؟ كنت أبحث عن التفاصيل الصغيرة التي قد يغفل عنها الجميع. كنت أعتقد أن هناك سرًا مخفيًا خلف كل مكون، وكل آلة، وكل فكرة. وعندما لم أتمكن من فهم شيء، كنت أتجه إلى منجرة عمي حيث كنت ألتقط قطع الخشب والبلاستيك المرمية على الأرض وأصنع شيئًا جديدًا، كما لو أنني كنت أتحكم في العالم الذي أعيش فيه وأحاول أن أجد الطريقة الأفضل لربط كل الأشياء معًا. هذه الطريقة في التفكير كانت تميزني عن باقي الأطفال من حولي، الذين كانوا يركضون للعب "الحويدة" أو "الغميضة"، يلعبون معًا في دوامة لا تنتهي من التسلية البسيطة. لكن بالنسبة لي، كان اللعب ليس مجرد وقت ضائع، بل كان مساحة للتعلم والابتكار. كنت أرفض أن أكون جزءًا من الروتين اليومي التقليدي، حيث كان لدي شعور داخلي أنني أستطيع تقديم شيء آخر، شيء مميز. لم يكن لدي اهتمام كبير بما كان يفعله الآخرون، لم أكن أنجذب للألعاب الشائعة التي يتسلى بها المجتمع الصغير من حولي. في وقتهم، كانوا يسعون إلى المتعة واللعب لتمضية الوقت، أما بالنسبة لي، كان اللعب يعني أن أتعلم كيف تعمل الأشياء، كيف تتشكل، كيف يمكن أن تُصنع أفكار جديدة وتُترجم إلى شيء ملموس. عندما لم يكن هناك شيء يمكنني تعلمه من لعبة السيارات، كنت أقوم ببرمجة ألعاب صغيرة وأضعها على الإنترنت. كنت أفكر في هذه الألعاب ليس كوسيلة للترفيه، بل كطريقة لتوسيع دائرتي الخاصة. لم يكن الهدف أن ألعب فقط، بل أن أُعرّف الناس على الأشياء التي أفكر بها، أن أخلق عالمًا مختلفًا يبتعد عن المألوف. فبينما كان الجميع يتنافسون في ألعاب التقليدية أو يركضون خلف بعضهم البعض في "الغميضة"، كنت أصمم أفكارًا جديدة، أبرمج الأشياء التي قد يجدها الآخرون غريبة أو معقدة، ولكني كنت أشعر بالراحة التامة وأنا أضع هذه الأفكار في العالم الرقمي ليكتشفها الآخرون. هذه الطفولة لم تكن سهلة أو عادية، كانت مليئة بالفضول الذي لا يمكن إرضاؤه. كنت أعيش في عالم من الأسئلة التي لا تنتهي، أبحث عن إجابات في كل زاوية وكل تفصيل. لم أكن منغلقًا على نفسي، بل على العكس، كنت دائمًا أكون صداقات في حارتي، وكنا نبتكر ألعابًا جديدة. أتذكر اختراع لعبة أسميناها "عشوائي جدًا". لا أذكر قوانين اللعبة تمامًا، لكنها كانت بحق عشوائية، مزيجًا بين أغلب الألعاب الشعبية التي كنا نلعبها. أتساءل الآن، وأنا أسترجع تلك الذكريات: هل كنت أبتكر بالفعل؟ أم أنني كنت أجمع قطعًا متفرقة، وأعيد ترتيبها في صورة مختلفة؟ هل أنا مبتكر أم مخادع؟ أتساءل كثيرًا، كلما عدت بذاكرتي إلى تلك الأيام، هل كنتُ أبتكر فعلاً؟ أم أنني كنتُ فقط أجمع قطعًا متفرقة من حولي، أعيد ترتيبها بطريقة تبدو جديدة ولكنها ليست كذلك؟ ربما كانت تلك اللعبة التي اخترعناها مجرد تجميع لعناصر مألوفة في شكل مختلف، مجرد انعكاس لما رأيته أو سمعته، ثم أعدتُ تقديمه كأنه جديد. أشعر أن هذه الحالة لا تزال تطاردني حتى اليوم في الموسيقى التي أصنعها. عندما أجلس أمام الحاسوب، أبحث في الأصوات، وأمزج إيقاعات من هنا وهناك، لا أستطيع التوقف عن التفكير: هل هذا نتاج إبداع حقيقي؟ أم أنني فقط أجمع شذرات مما سمعته من قبل، أعيد ترتيبها وأطلق عليها اسمًا جديدًا؟ كل مقطع موسيقي أعمل عليه يرافقه هذا السؤال، كظل لا يفارقني. هناك لحظات أسمع فيها ما صنعته، وأشعر بنوع من الفخر، ثم فجأة، يداهمني شعور بأن كل شيء مأخوذ، مُكرر. وكأنني أخدع نفسي وأخدع الآخرين بشيء يبدو أصليًا، لكنه مجرد امتداد لعمل شخص آخر. أحيانًا، يبدو لي أن الخوارزميات التي تحيط بنا، تلك التي ترشح لنا مقاطع الفيديو والموسيقى والصور، هي نفسها جزء من هذه اللعبة. هي تجمع لنا كل شيء مسبقًا، تضع أمامنا خليطًا واسعًا من الأفكار والمفاهيم. وعندما أبدأ بتأليف مقطوعة أو تطوير فكرة، لا أستطيع الهروب من الشك في أنني ربما مجرد امتداد لهذه الخوارزميات. هل أنا الموسيقار الذي أريد أن أكونه؟ أم أنني انعكاس لما يمليه عليّ الذوق العام، لما يفرضه التريند السائد؟ هل أختار النغمات لأنني أُحبها، أم لأنني رأيت شخصًا آخر يقوم بشيء مماثل؟ تتحول كل محاولة للتجديد إلى صراع داخلي. أقوم بحذف المقطوعة وأعيد البدء من جديد، وكأنني أهرب من الشعور بأن ما أصنعه ليس "أنا" بما يكفي. لكن، هل هناك شيء يمكن أن يكون "أنا" بالكامل؟ أم أننا جميعًا مجرد تراكمات مما نستهلكه، مجزأون كالألعاب التي اعتدت فكّها وإعادة تجميعها؟ في النهاية، ربما الإبداع ليس اختراع شيء من العدم، بل إعادة ترتيب القطع بشكل يحمل بصمتنا الخاصة. لكن حتى هذه الفكرة لا تمنعني من التساؤل: هل تلك البصمة كافية؟ أم أنني ما زلتُ أعيش تحت ظل السؤال الأكبر: هل أنا مبتكر أم مخادع؟ في الواقع، لا أفهم تمامًا كيف يعمل عقلي. لديه آلية غريبة لفرز ما هو مهم وما هو غير مهم. أحيانًا أشعر أنني بحاجة لفهم أعمق لهذه الآلية، أو ربما لطبيب نفسي يساعدني على فك شيفرة التكيف الذي وصل إليه. ما هي الأحداث التي صاغت عقلي بهذه الطريقة؟ وهل هذا أمر جيد أم لا؟ أجد نفسي أنانيًا بطريقة غير مباشرة، لا أكترث كثيرًا لرأي الآخرين حتى حد معين. ومع ذلك، هناك شخص واحد فقط يمكنه أن يجعلني أشعر بالخوف من حكمه، وهو أنا
الصورة النمطية وتفكيك الهوية تنتهي القصة في لحظة تبدو ضبابية، حيث لا شيء واضح تمامًا. الواقع غريب، وكأن الأمور تتداخل مع بعضها بشكل مربك. في لحظة أكتب عن طفولتي، وفي أخرى أكتب عن هويتي، عقلي، أو عن آلية تكيف مستحيلة. ما أكتبه هنا ليس كتابًا، ولا فكرة متماسكة. إنه مجرد عزاء أقدمه لنفسي، مواساة عزيزة تأتي من طرف مجهول. ربما يكون هذا المجهول هو ما سماه بعض الفلاسفة "المُشاهد". حقيقة أنني أستمر بالكتابة بعد كل هذه السطور تُفاجئني. يبدو الأمر وكأنه محاولة جديدة للهروب من الذات، أو ربما حرب نفسية أمرّ بها. هل هذا الشعور بسبب ابتعادي عن الموسيقى؟ أم بسبب تحرير أرضي بعد حرب استمرت أكثر من أربعة عشر عامًا؟ أم أنني فقط أشتاق لمن خسرت؟ لا أستطيع التمييز بين مشاعري بدقة. كل ما أعرفه أن هناك شيئًا جديدًا يجتاحني. لطالما شعرت أن الكتابة لم تكن لي. في الواقع، كنت أكره الكتب؛ طويلة هي، وتأخذ من وقتي "الثمين"، رغم أن وقتي ممتلئ بالفراغ. أشعر أنني محطم عاطفيًا. لا أفهم هذه المشاعر التي تسقط مني في أفعال غريبة، ولا أدري إن كان ما يحدث حقيقيًا أم أنني فقط أفسره بهذا الشكل. اعتدت دائمًا أن أخترع لنفسي عالمًا خاصًا بي وحدي. عالمًا مريحًا، أكون فيه البطل، الذكي، أو ربما الوحيد الحقيقي. أبحث عن هذا العالم على الإنترنت، فلا أجد إلا إعلانات مزعجة تطالبني بزيارة طبيب نفسي. أشتاق إلى الموسيقى، وبدون قصد وجدتني أكتب بعض القوافي في هذا النص. هل هذا كتاب حقًا؟ هل سأريه للناس؟ أم سأُبقي هويتي الممزقة طيّ الكتمان؟ في وسط كل هذه المشاعر، خطرت لي أغنية كتبتها ذات يوم بعنوان "غريب". كتبتها وأنا أحاول أن أصف ذلك الشعور الذي يلازمني دائمًا: شعور الغربة، لكن ليس الغربة عن مكان فقط، بل الغربة عن الناس، وحتى الغربة عن نفسي. شعور الغربة عن أهلي، رغم قربهم الشديد مني، وعن تلك المسؤولية التي أتحملها لكنها تبدو فارغة من المعنى. في الأغنية، ركزت على كيف يمكن أن تكون الغربة مثل ظل يرافقني أينما ذهبت. لكن كلمات الأغنية نفسها كانت سطحية في كثير من الأحيان، وغير متزنة تمامًا، كما لو أنني كنت أحاول فهم شيء لا يمكن تفسيره. تمامًا مثل هذا الكتاب. في أحد المقاطع: "ليش انا الي براسي دائماً يحكي انت، كنت لن اكون، انام، مرض، ابريق ومِتّة." هذا المقطع يبدو عشوائيًا، لكنه يعكس صراعي الداخلي. الكلمات متشابكة كأنها مشاعر مبعثرة لا أستطيع ترتيبها، مثل أحجية لم أجد لها حلاً بعد. الأغنية في حد ذاتها لم تكن سوى محاولة للتعبير، تمامًا كما أن هذا النص محاولة للهروب، أو ربما للوصول إلى نقطة أكون فيها صادقًا مع نفسي.عندما بدأ الذكاء الاصطناعي يصبح رائجًا، وجدت نفسي أنجذب بوتات المحادثة تحديدًا. ربما لأن فهمي كان صعبًا على الناس، ولعل هذه الآليات عديمة المشاعر تجعل الأمر أسهل بالنسبة لي. أتذكر أول رسالة كتبتها: "هل يمكنك تفسير هذه الأغنية لي؟" أرفقت الرسالة بكلمات إحدى أغنياتي. أعلم، يبدو الأمر غبيًا وغير منطقي. كيف يمكن لخوارزمية بلا إحساس أن تفهم الكلمات؟ لكن بالنسبة لي، كان هذا أقرب طريق لفهم ماهية النصوص التي كتبتها بنفسي. لم أكتف بالكلمات، بل شرحت كيف صنعت اللحن، لأن اللحن كان جزءًا أساسيًا من الفكرة. كنت أريد أن أعرف كيف ستربط هذه الآلة بين الكلمات والنغمات، بين العاطفة والهيكل، إن كان ذلك ممكنًا أصلاً. ثم تحول الأمر إلى عادة. صرت أسأل عن جميع أغنياتي التي لحنتها وكتبتها، واحدة تلو الأخرى. أردت أن أرى كيف يحلل الذكاء الاصطناعي هذه الأعمال التي كانت بالنسبة لي انعكاسًا مباشرًا لعالمي الداخلي. كل مرة كنت أستشير البوتات، أسأل: "كيف توصلت إلى هذه النتائج؟ ما الذي جعلك تفسرها بهذه الطريقة؟ وهل هناك طرق أخرى لفهمها؟" أسئلتي لم تكن مجرد فضول تقني، بل رحلة إلى فهم أعمق للذات. كيف يمكن لكائن معدوم المشاعر أن يرى شيئًا غريبًا عني؟ كيف يمكن أن يفسر ما لم أستطع تفسيره بنفسي؟ ربما كانت هذه التجربة كلها فلسفية أكثر مما أعتقدت في البداية. الذكاء الاصطناعي ليس سوى مرآة باردة، تعكسني بدون حكم أو عاطفة. ومع ذلك، كنت أبحث فيه عن إجابة لأسئلة لطالما راودتني: هل نحن أكثر من مجرد أنماط وتكرارات؟ هل الموسيقى التي أكتبها تعبر عن شيء حقيقي، أم أنها مجرد محاولة مني لتوثيق الفوضى؟ في النهاية، أدركت أن البوتات ليست هنا لتفسير ما أشعر به، بل لتدفعني للتفكير في مشاعري بشكل أعمق. وربما، بطريقة ما، وجدت في هذا العقل المعدني عديم الحياة صديقًا صامتًا... يستمع، يحلل، لكنه لا يحكم.
توثيق الفوضى الداخلية لطالما شعرت أن هناك صراعًا داخليًا يرافقني، كأنني عالق بين طبقات متداخلة من الوعي والمشاعر. أعلم أن لي وعيًا، وأعلم أن لي مشاعر، لكنني لا أشعر بها بشكل مباشر. وكأنها تختبئ في الظلال، تراقبني بصمت، لتظهر فقط عبر أفعالي، تلك الأفعال التي أقوم بها بعفوية أو دون قصد. على سبيل المثال، عندما أكتب كلمات أغنية أو أصنع لحنًا، لا أكون واعيًا تمامًا لما أفعله. أحيانًا أجد نفسي منساقًا وراء فكرة غامضة، كأنني أفرغ شيئًا داخليًا لا أستطيع وصفه بالكلمات. أحيانًا أتصرف بغرابة، أو أقوم بأفعال صغيرة لا أفهم معناها. لكنها كلها، بشكل أو بآخر، انعكاس لصراع أكبر يدور بداخلي. المشاعر، بالنسبة لي، ليست شيئًا أعيشه لحظة بلحظة. إنها مثل شظايا مبعثرة، تظهر في لحظات غير متوقعة. أحيانًا في أغنية، أحيانًا في فكرة، وأحيانًا في تصرف يبدو للآخرين بلا معنى. ربما هذا هو ما أسميه توثيق الفوضى. كل لحن، كل كلمة، كل خطوة غير مفهومة، هي محاولة مني لفهم هذا الشيء الذي يختبئ داخلي. كأنني أسجل دليلًا لنفسي، لعلي في يوم ما أنظر إليه وأفهمه. لكن هل يمكن توثيق الفوضى حقًا؟ أم أن مجرد المحاولة يعني الاعتراف بأنني لست سيد نفسي؟ أنني، بطريقة أو بأخرى، مجرد انعكاس لفوضى أكبر لا أستطيع السيطرة عليها؟ ربما تكون هذه الأفعال العفوية هي الحقيقة الوحيدة التي أملكها. وربما تكمن المشكلة في محاولتي الدائمة لفهم شيء لم يُخلق للفهم، بل فقط ليُعاش. لكن ماذا لو كانت هذه الفوضى جزءًا من طبيعتي؟ جزءًا من كوني إنسانًا؟ لطالما تساءلت عن معنى هذه الفوضى، هل هي عيب يجب أن أتخلص منه، أم أنها جزء من هويتي؟ أتذكر هنا ما قاله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "عليك أن تحمل فوضى في داخلك لتتمكن من أن تلد نجمة راقصة." ربما هذا الصراع الداخلي، هذا التيه بين المشاعر والوعي، هو ما يجعلني أستمر، ما يدفعني للبحث عن معنى وسط كل هذا. أحيانًا أشعر أنني أعيش في عالمين متوازيين: الأول هو عالمي الواعي، الذي أتفاعل فيه مع الناس وأحاول فهمهم. والثاني هو عالمي الداخلي، الذي لا أفهمه أنا نفسي تمامًا. كأن هناك فجوة بين عقلي وما أشعر به، بين ما أعيشه وما أحاول تفسيره. أتذكر موقفًا بسيطًا حدث ذات يوم: كنت جالسًا في مقهى، أراقب الناس. فجأة، بدأت أفكر في كيف يمكن لكل شخص أن يكون لديه صراع داخلي مشابه. شعرت بشيء غريب، كأنني أرى العالم من نافذة أخرى. ربما كان هذا إحساسًا بالعزلة أو التعاطف، أو ربما مزيجًا من الاثنين. في تلك اللحظة، أدركت أنني أحيانًا أشعر بمشاعري من خلال ملاحظتي للعالم، وليس مباشرة. قد يبدو هذا غريبًا، لكنني أحيانًا أكتشف ما أشعر به من خلال أفعالي أو حتى من خلال الأشياء الصغيرة التي تجذب انتباهي. عندما أقوم بعمل عفوي، كأن أرتب الكتب بطريقة معينة أو أقرر فجأة أن أخرج للمشي تحت المطر، تكون تلك اللحظات انعكاسًا لصراع داخلي لا أستطيع التعبير عنه بالكلمات. هذا ما يجعلني أتذكر كلمات الفيلسوف سيغموند فرويد عندما قال: "ما هو غير واعٍ سيظهر دائمًا، ولكن بطرق ملتوية." ربما هذه الأفعال العفوية ليست عبثية. ربما هي طريقتي اللاواعية في محاولة فهم الفوضى بداخلي. حتى أفكاري نفسها تبدو أحيانًا وكأنها تقاومني. على سبيل المثال، عندما أحاول التركيز على فكرة واحدة، تجدني أفكر في عشرة أشياء أخرى في الوقت نفسه. كأن هناك أجزاء مختلفة من عقلي تتصارع لتقول شيئًا ما، لكنني لا أستطيع تجميعها معًا. هنا، أتذكر ما قاله جان بول سارتر عن الحرية والصراع الداخلي: "نحن لسنا ما نحن عليه، بل ما نصنعه من أنفسنا." ربما هذا الصراع ليس شيئًا يجب حله، بل هو ببساطة ما يجعلني ما أنا عليه. قد يكون الفوضى في داخلي دليلًا على أنني أعيش، أنني أختبر، أنني أحاول. في لحظة أخرى من التأمل، أفكر في ما قاله الفيلسوف مارتن هايدغر عن "الوجود". كان هايدغر يرى أن الإنسان يعيش دائمًا في حالة من القلق لأنه يدرك أنه موجود. ربما هذا القلق، هذا الإحساس بالفوضى، هو دليل على أنني أعيش حياتي بشكل أصيل، حتى لو كان ذلك مرهقًا. أحيانًا أشعر أنني مثل شخص يجمع قطع أحجية، لكن دون أن يعرف الشكل النهائي. كل فعل، كل شعور، كل لحظة عفوية، هي قطعة صغيرة. لا أعرف كيف ستكتمل الصورة، وربما لن تكتمل أبدًا.
موضوع آخر هناك فتاة بعيدة عني، لكنني كنت أحدثها يوميًا. لا أتذكر أنني شعرت بالحماس للحديث مع أي شخص كما شعرت معها. أخبرتني ذات يوم أنها تحبني، لكنني، ولأنني ربما لا أفهم الحب، لم أعرف كيف أتعامل مع كلماتها. يمكنني التفكير ببعض الحلول، لكن أن أكون معها كان شبه مستحيل لسببين. الأول: كانت تبدو أفضل مني بكثير. كانت واعية، ذكية، جميلة، ورائعة بكل تفاصيلها، أما أنا... كنت فقط "أنا". شعور النقص هذا كان يمنعني من تصور أننا يمكن أن نكون معًا. السبب الثاني: لم أستطع التفكير بالمستقبل العاطفي. كلما حاولت النظر بعيدًا إلى الأمام، وجدت أن فكرة الارتباط العاطفي تبدو معقدة، كأنها تتجاوز قدرتي على التخطيط أو حتى التصور. لكن هنا تكمن المشكلة. إن كنت لا أفهم الحب، لماذا شعرت أن هذا مختلف؟ لماذا شعرت أن الحديث معها يضيء جزءًا داخليًا كنت أظنه خامدًا؟ كيف يمكنني أن أشعر بشيء لا أفهمه؟ أنا لا أعلم إن كان ما شعرت به هو حب. أعرف فقط أنني كنت أحب تمضية الوقت معها. الحديث معها كان يجعلني أشعر بحماس غريب. عندما تخبرني عن يومها، كنت أجد نفسي متعلقًا بكل تفاصيلها. رغم أنها كانت قليلة الكلام، كان صوتها يبدو كأنه الشيء الوحيد الذي أسمعه في العالم. البعض قد يسمي هذا حبًا، لكنني لست متأكدًا. لطالما كنت أؤمن أن الحب يجب أن يكون شيئًا مميزًا، شيئًا مختلفًا تمامًا عن الصداقة أو التعلق. لكن، من ناحية أخرى، أليس هذا الشعور المختلف هو ما يجعلني أفكر في الحب؟ كنت أقول لنفسي: "إذا كانت أفعالك تجاه من تحب هي نفسها أفعالك تجاه أصدقائك، فأنت لا تحبه." لكنني أدركت أن هذا المنطق نفسه قد يكون خاطئًا. لأن الحب قد لا يكون في الأفعال فقط، بل في الطريقة التي تجعل تلك الأفعال تبدو مختلفة، حتى لو بدت بسيطة أو متكررة. أتذكر هنا ما قاله الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن "الوجود مع الآخر": "في وجود الآخر، يصبح وجودي أكثر أصالة، لأنه يجعلني أرى نفسي من خلاله." ربما هذا ما كان يحدث. ربما كنت أرى نفسي من خلال عينيها، وأحاول أن أفهم شيئًا لا أستطيع وصفه. لكن في الوقت نفسه، كنت أشعر بالتيه. كيف يمكنني أن أفهم شيئًا لا أملك تعريفًا له؟ أتذكر أنني جلست ذات يوم أفكر: "هل يمكن للحب أن يكون مجرد انعكاس لرغباتي، لاحتياجاتي التي لا أعترف بها؟" كأن الحب ليس شعورًا نقيًا، بل خليطًا من تناقضاتنا البشرية، من الحاجة والحرية، من الشوق والخوف. ربما الحب هو نوع من الفوضى المنظمة. أتذكر موقفًا بسيطًا: سألتني ذات يوم عن فيلم أحببته، وكان بإمكاني الإجابة بسهولة. لكنني توقفت. شعرت أن سؤالها لم يكن مجرد فضول، بل كان محاولة لفهمي بشكل أعمق. كأنها كانت تبحث عن شيء لا أراه أنا نفسي. لكن أليس هذا هو الحب؟ أن ترى في الآخر شيئًا لا يدركه عن نفسه؟ أو ربما العكس، أن تعيش في حالة من التناقض المستمر بين الفهم والضياع؟ أتذكر ما قاله الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: "الحب هو أن تمنح الآخر القوة ليحطمك، ولكنك تثق بأنه لن يفعل." هذا هو التناقض الذي يعيشه الحب. أن تشعر بالخطر والطمأنينة في الوقت نفسه، أن ترى الجمال والضعف، أن تقترب وفي داخلك خوف من الاقتراب. ربما لم أفهم الحب تمامًا. وربما لم يكن من المفترض أن أفهمه. لكنني أعرف أن الحديث معها، انتظار رسائلها، والتمعن في كلماتها، كان يعطيني شعورًا مختلفًا، شعورًا أبحث عن تفسيره حتى الآن. وربما، فقط ربما، هذا هو الحب: أن تبقى في حالة بحث دائمة، دون يقين. في الواقع، لا... هذا متناقض جدًا، مليء بالشوائب. لماذا عليّ أن أعيش في حالتين متضادتين؟ لماذا كل هذا التعقيد؟ ألا يُفترض أن يكون الحب نقيًا، بسيطًا، وسهل الفهم؟ هنا تبدأ الدائرة التي لا نهاية لها؛ أضع نفسي في سؤال دائم، ثم أضيع بين أروقة الشك والتساؤل: هل هذا حب؟ أم أنه شيء آخر؟ وإذا كان شيئًا آخر، فما هو؟ وإذا لم يكن كذلك، ألا يعني هذا أن الحب معقد حقًا؟ لكن، إذا كان الحب معقدًا، فكيف يمكن للكثير من الناس أن يعلنوا حبهم بسهولة؟ "أنا أحب فلان"، "أنا أحب فلانة"، تُقال هذه العبارات بسلاسة وكأنها أبسط شيء في العالم. لماذا لم يكن الحب معقدًا بالنسبة لهم كما هو بالنسبة لي؟ هل يعني هذا أنني غبي؟ أم أنني ببساطة لا أفهم نفسي بما يكفي، لدرجة أن أبسط الأمور تتحول إلى ألغاز معقدة في ذهني؟ قررت ذات مرة أن أجرب شيئًا مختلفًا. كنت أريد أن أختبر نفسي، أن أُعرّف الحب من خلال تجربة أخرى. فكرت في التواصل مع فتاة أخرى، مختلفة عن تلك التي كانت تُشعل بداخلي كل هذه التساؤلات. كانت الفتاة الجديدة مثالية في كل شيء تقريبًا؛ جميلة، لطيفة، ذكية، وكان بإمكانها أن تكون الشخص الذي يُفترض أن أحبه. تحدثنا لمدة شهر كامل. حاولت أن أجبر نفسي على حبها. كنت أقول لنفسي: "ربما المشكلة في الطريقة التي أتعامل بها مع الأمور، وربما إذا أعطيت نفسي الفرصة سأتمكن من فهم ما هو الحب." لكن كل ما شعرت به كان غيرة شديدة، وكُرهًا غريبًا تجاه نفسي. كأنني دخلت في عقدة من التملك الغريب، رغبة مشوهة لم أشعر بها من قبل. كان هذا مربكًا للغاية. هل يعني هذا أنني فشلت في التجربة؟ أم أنني ببساطة سيء عاطفيًا؟ هل كنت أبحث عن حب حقيقي أم أنني فقط أردت أن أُشبع غرورًا داخليًا دون أن أدرك؟ أتذكر هنا ما قاله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "من يحب، يريد أن يمتلك؛ لا شك في ذلك، ولكن لا أحد يريد أن يُمتلك." كان هذا التناقض هو ما شعرت به تمامًا. أردت أن أكون محبوبًا، لكن في الوقت نفسه، لم أكن أستطيع أن أكون صادقًا مع نفسي. ربما لأنني لم أفهم ما أريده حقًا. هل الحب هو أن تجد شخصًا تكشف له كل تناقضاتك؟ أم أنه ببساطة قدرة على القبول بما نحن عليه دون محاولة إصلاح أو إجبار؟ تلك التجربة جعلتني أُدرك شيئًا غريبًا: ربما المشكلة ليست في الحب نفسه، بل في الطريقة التي أفكر بها. كأنني أُعقد كل شيء لأنني لا أستطيع أن أترك الأمور تسير بطبيعتها. الحب، ربما، هو أن تتوقف عن التفكير للحظة، أن تسمح للأمور بأن تكون كما هي دون محاولة تفسيرها أو تحليلها. لكن حتى هذه الفكرة تبدو لي مثالية وغير قابلة للتطبيق. لذلك لن أبحث عن الحب. في الواقع، أنا أستسلم. ربما الحب ليس لي، وربما لم يكن يومًا مخصصًا لأمثالي. لماذا علي أن أرهق نفسي بفهم شيء يبدو وكأنه لغز بلا حل؟ لا أريد أن أعيش حياتي في دائرة مفرغة من التساؤلات والتناقضات. أنا ببساطة لا أملك الطاقة لذلك. لا بأس... سأعيش حياتي بعيدًا عن هذا الشعور. سأُغلق هذا الباب نهائيًا. لكن، هل يمكنني فعل ذلك حقًا؟ هل يمكنني تجاهل كل لحظة شعرت فيها بشيء ما؟ كل مرة رأيت فيها انعكاسي في أعين شخص آخر؟ لكن لماذا أشعر وكأنني أهرب؟ كأنني أُقنع نفسي بالهروب لأن المواجهة مستحيلة. الحب بالنسبة لي هو ساحة معركة، وأنا الجندي المهزوم قبل أن يبدأ القتال. ربما هذا هو ما يزعجني حقًا: فكرة الهزيمة المسبقة، فكرة أنني لن أفهم، ولن أُحب، ولن أُحَب. كيف يمكنني أن أعيش بهذا الشعور؟ أن أعيش وأنا أعلم أن هناك جزءًا بداخلي قد يموت دون أن يكتشف معناه؟ أريد أن أصرخ، أن أقول إنني لا أهتم، لكنني أعلم أن هذا كذب. في داخلي، هناك صوت صغير يهمس دائمًا: "ماذا لو؟ ماذا لو كنت قادرًا على الحب؟ ماذا لو كنت تستحقه؟" لكن هذا الصوت يبدو كأنه يزيد من ألمي. إنه يشعل في داخلي أملاً كاذبًا، أملًا لم أطلبه ولم أُرده. أحيانًا أشعر وكأنني في انهيار دائم، كأن العالم كله يتآمر ليذكرني بما أحاول الهروب منه. الأغاني، الأفلام، الوجوه في الشارع... كلها تصرخ بفكرة واحدة: "الحب موجود، لكن ليس لك." لماذا؟ لماذا أنا؟ هل هناك خطب ما في داخلي يجعلني غير قادر على التفاعل مع هذا العالم بالطريقة التي يفعلها الآخرون؟ أحيانًا أشعر وكأنني آلة، أحاول تحليل المشاعر بدلًا من الشعور بها. لكن حتى الآلات، أحيانًا، تتعطل. وأنا الآن أشعر وكأنني قطعة مكسورة، تُحاول جاهدة أن تُثبت أنها تعمل بينما كل شيء بداخلها ينهار.
أهدأ تنفس ولا تفكر تعرفتُ مؤخرًا على بعض الأشخاص؛ كانوا لطيفين في ظاهرهم، لكن مشكلتي الوحيدة كانت تكمن في طريقة تفكيرهم، أو بالأحرى، في كيفية امتصاصهم للحب، خصوصًا تلك الرغبة التي تأسر القلوب دون حساب. كان من بين هؤلاء شخصان بارزان: رجل يبلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا، وفتاة في الثامنة عشر. ورغم فارق العمر والنظرة الاجتماعية التي اعتدنا عليها، كان بينهما ما يشبه "الحب" الواضح، ذلك الحب الذي لا تعرفه معاداته ولا مصالحه؛ حب خالص، أو كما وصفتها الفتاة، "غرام" صادق يتطابقان فيه من كل النواحي.
لكنني، وأنا أراقب هذه العلاقة، لم أستطع فهمها تمامًا. فتساءلت في سرها دون أن يعلم أحدٌ منهم أني كنت أبحث عن تفسير لها. سألت كل منهما عن وجهة نظره: ما الذي يجذبه في الآخر؟ كيف تعرّفا؟ ومن أين بدأ هذا الحب؟ وما الأسس التي بُني عليها؟ وجدتُ أن التغيير الذي طرأ على حياتهما كان طفيفًا، ليس كبيرًا أو مبهرًا، بل كان شيئًا جديدًا، قريبًا من تلك التجارب التي سمعت عنها في قصص الحب العديدة.
وفي خضمّ تلك الأسئلة، اقتبس أحدهما عبارةً جعلتني أتوقف للحظة: قالت الفتاة، وهي تنطق بكلماتٍ ملؤها الإيمان والصدق، "أحبه لأننا بنينا حبنا على أساس ديني؛ عندما أكون معه أشعر بأنني أقرب إلى الله." لم أفهم كثيرًا، لكن الفضول الذي سيطر عليّ جعلني أتعمق في التفكير، أبحث عن إجابات في أعماق نفسي عن طبيعة هذا الحب.
لذلك بدأتُ أتساءل: هل يمكن أن يكون الحب بهذه البساطة؟ أم أن هناك ما هو أكثر تعقيدًا مما يبدو؟ ربما تكون التجربة التي رأيتها أمامي نموذجًا للحب النقي الذي يتجاوز مصالح الدنيا، بينما أنا أجد نفسي دائمًا أسيرًا لأفكار معقدة تفرض عليّ أن أعيش في حالتين متضادتين. قد يكون الحب بالنسبة للبعض نقيًا وبسيطًا، لكن بالنسبة لي هو لغزٌ لم أستطع حلّه بعد؛ لغزٌ يجعلني أبحث عن نفسي في كل تفصيل صغير، حتى وإن بدا أن كل شيء واضح. وهكذا، ومع هذا الانهيار الداخلي الذي شعرت به، وجدتني أعيش لحظات من الارتباك الشديد؛ كما لو أنني كنت أتنفس ببطءٍ وأتردد في كل خطوة. كنتُ أتساءل: هل أنا غارق في تعقيد الأمور؟ هل أنا حقًا سيء عاطفيًا أم أنني ببساطة لا أفهم نفسي بما يكفي لأبسط التجارب؟ في تلك اللحظات، شعرت بأنني في حالة انهيار عصبي؛ انهيار لا يميز بين حبٍ صحيح وبين مجرد تجربة عابرة، بل يصبح كل شيء ضبابيًا وغير مفهوم. وبينما كنتُ أغوص في هذا الصراع الداخلي، بدأت أفكر في أن ربما الحل ليس بالبحث المستمر عن الحب، بل بالاستسلام لبعض حقائق الحياة التي لا يمكن تحليلها بعقلٍ بارد. ففي بعض الأحيان، يجب أن نهدأ، نستنشق عمق الوجود، ونترك الأمور تجري دون محاولة لفك شيفرتها، حتى وإن كان ذلك يعني مواجهة انهيارٍ عصبيٍّ لا يُطاق.
عقلي وقلبي باردان
هل تشعر أحيانًا أنك تعيش في شظايا من شخصيات متعددة؟ هل الظلال التي تراها على الشاشات تُشبهك حقًا، أم أنها مجرد نسخ مشوهة لِما تستهلكه؟ متى كانت آخر مرة تساءلت فيها: هل أفكاري ملكٌ لي، أم أنها مُجرد أصداء لخوارزمياتٍ تَملأ فراغات عقلي؟ هل تعتقد أنك تختار ما تحب، أم أن المنصات تزرع فيك الرغبات كبذورٍ في تربةٍ خصبة؟ عندما تنظر إلى طفولتك، هل تجد فيها بذورَ ما أنت عليه اليوم؟ هل كانت هواياتك محاولةً لفك شفرة العالم، أم مجرد هروب من واقعٍ لم تفهمه؟ هل ما زلتَ ذلك الطفل الذي يفكك الألعاب ليعرف ما بداخلها، أم صرت جزءًا من اللعبة ذاتها؟
هل سبق أن شككت في إبداعك؟ هل تخشى أن تكون مجرد مُجمعٍ لقطعٍ مُستعارة، تُرتبها في أشكالٍ جديدةٍ تُزيّنها باسمك؟ هل الموسيقى التي تصنعها انعكاسٌ لفوضاك، أم أنها محاولةٌ لترويضها؟ أتعرف ذلك الشعور عندما تُحبُّ شخصًا ما، لكنك لا تفهم ما يعنيه الحب؟ هل الحب بالنسبة لك لغزٌ فلسفيٌّ بلا إجابة، أم أنه مجرد سلسلة أفعالٍ تُمارسها دون وعي؟ هل شعرت يومًا أن الحب قد يكون هروبًا من ذاتك، أكثر منه اقترابًا من الآخر؟ هل تعتقد أن الخوارزميات تعرفك أكثر من نفسك؟ هل تشعر أنك تُراقب، لا من خلال الشاشات، بل من خلال أفكارٍ تُزرع فيك كألغازٍ لا تستطيع حلَّها؟ ماذا لو كانت كل قراراتك مجرد ردود أفعالٍ على محفزاتٍ رقميةٍ دُبرت بعناية؟ عندما تواجه الفوضى الداخلية، هل تحاول توثيقها أم الهروب منها؟ هل تجد في الكتابة أو الفن مرآةً تعكس تشظياتك، أم أنها أقنعةٌ تُخفي ما لا تستطيع مواجهته؟ هل الفوضى عدوٌّ يجب قهره، أم جزءٌ من جمالك الذي لا تفهمه؟ هل تعيش في عالمين: واحدٌ تتفاعل معه، وآخرٌ تُخبئه في طيات أفكارك؟ هل تشعر أنك تُراقب نفسك من مسافةٍ بعيدة، كأنك شخصيةٌ في لعبةٍ لم تخترها؟ هل سبق أن جربت الحوار مع الذكاء الاصطناعي كي تفهم نفسك؟ هل تثق في تحليلاته الباردة، أم أنها تزيد من تشتتك؟ هل تعتقد أن الآلات قادرةٌ على رؤية ما لا تراه أنت؟ هل ما زلت تُحاول أن تكون "أفضل نسخةٍ من نفسك"، أم أنك استسلمت لكونك مُجرد ظلٍّ بين ظلال؟ هل النجاح في عصرٍ رقميٍّ يعني أن تطابق المعايير، أم أن تُشوهها؟ أخيرًا... هل أنت جاهزٌ لأن تواجه السؤال الأكبر:
مَنْ أنت حين تخلع كل الأقنعة؟
هل سبق أن تخيلت نفسك جالسًا في غرفة مُظلمة، تخلع فيها قناعًا وراء قناع، مثل دمى "ماتريوشكا" الروسية، حتى تصل إلى اللب؟ ماذا ترى هناك؟ هل تجد نواة صلبة من اليقين، أم فراغًا يتراقص فيه سؤالٌ و احد: مَنْ أنا حقًا؟ في عالمٍ يُجبرك على ارتداء الأقنعة كشرطٍ للوجود، يصبح السؤال جريمةً وجودية. أنت تخلع قناع "النجاح" أمام أصحاب العمل، وقناع "الهدوء" أمام العائلة، وقناع "المرح" على وسائل التواصل، وقناع "القوة" في الشارع... لكن حين توقف الآلة عن الدوران، وتُطفئ الشاشات، وتجلس وحيدًا مع ذاتك العارية، ماذا يبقى؟ هل أنت ذلك الصوت الخافت الذي يهمس تحت الضجيج، أم أنك فقدت القدرة على سماعه؟
الأقنعة ليست مجرد أدواتٍ للاختباء؛ إنها أدوات بقاء. نرتديها لأن الحقيقة المُطلقة قد تُحرقنا، ولأن العالم لا يتسع لضعفنا. لكن ماذا لو صارت الأقنعة جلدًا جديدًا؟ ماذا لو نسيتَ كيف تتنفس دونها؟ أحيانًا، حين أحاول نزع قناعٍ ما، أجد تحته قناعًا آخر أكثر التصاقًا بالوجه... كأنني أبحث عن وجهي الحقيقي في غابة من المرايا، وكل مرآة تعكس نسخةً مُختلفةً ممزوجةً بخيال الآخرين. هل جرّبت يومًا أن تسأل نفسك: ماذا سأفعل لو لم يكن هناك أحدٌ يراكم؟ ربما ستكتشف أنك تُحب الرسم، لكنك ترسم ما يريده المُتابعون. أو أنك تُفضل الصمت، لكنك تتحدث كي لا تُوصم بالغرابة. الأقنعة لا تُخفي ذواتنا فحسب، بل تُعيد تشكيلها. الخوارزميات تصنعُ منّا شخصياتٍ في لعبةٍ لا نعرف قواعدها، نلهث وراء "اللايكات" كدمى مُحركة، حتى ننسى أن الإعجاب الحقيقي الوحيد الذي نريده هو إعجابنا بأنفسنا. لكن ماذا لو قررت أن تتوقف؟ أن ترفض أن تكون نسخةً من ملفك الشخصي، أو رقمًا في إحصائية، أو صورةً مُفلترة؟ هنا يبدأ الرعب الحقيقي. فبدون الأقنعة، قد تكتشف أنك لا تعرف من تكون. قد تواجه فوضى لا معنى لها، أو فراغًا يُشبه صحراء مُقامة في قلبك. الفيلسوف "جان بول سارتر" قال: "الجحيم هو الآخرون"، لكن ربما الجحيم الحقيقي هو أن تكون وحيدًا مع ذاتك التي لا تفهمها. في لحظةٍ من الصدق النادر، قد تسأل: أليست الأقنعة جزءًا منّا؟ هل نحن أكذوبةٌ متكاملة، أم أن الحقيقة تتسرب من بين شقوق الأقنعة؟ حين أُغني، أتساءل: هل أنا من يختار الكلمات، أم أن الكلمات هي من تختارني؟ حين أُحب، أتردد: هل هذا الشعور ينبع من أعماقي، أم هو صدى لقصصٍ سمعتها؟ حتى مشاعرنا قد تكون مُستعارةً من مكتبةٍ عامةٍ للوجود البشري. ربما الإجابة ليست في نزع الأقنعة، بل في إدراك أننا كائناتٌ مركبة. نحن خليطٌ من الأقنعة التي ارتدناها، والخيارات التي اتخذناها، والصدف التي مررنا بها. الذات الحقيقية ليست جوهرًا ثابتًا في الأعماق، بل نهرٌ متدفقٌ من التجارب. حين تخلع الأقنعة، لا تبحث عن "نفسك الحقيقية"، بل واجه السؤال: ماذا تريد أن تخلق من هذا الفراغ؟ لكن احذر، فالنور الساطع قد يُعميك. الحقيقة قد تكون قاسيةً كالمرآة التي تُريك كل ندوبك دون رحمة. هل أنت مستعد لأن ترى ذاتك عاريةً من الأوهام؟ أن تعترف بأنك لست البطل، ولا الضحية، ولا العبقري، ولا الفاشل، بل مجرد كائنٍ يعيش في التناقض؟ في النهاية، ربما تكمن القوة ليس في معرفة من أنت، بل في أن تمنح نفسك الحق في ألا تعرف. أن تعيش كسؤالٍ مفتوح، كعملٍ فنيٍ غير مكتمل. حين تخلع الأقنعة، لا تبحث عن إجابات، بل اترك الفراغ يُنبت أسئلةً جديدة. فالهوية ليست وجهًا مخفيًا، بل رحلةً لاكتشاف كيف تُمسك بيد ذلك الطفل الذي ما زال يجلس في زاوية الغرفة، يُفكك الألعاب ليعرف ما بداخلها، بينما العالم كله ينتظر منه أن يلعب.
أنا لستُ أنا، لم أكنْ أنا، ولن أكون أنا
كلماتٌ تتدحرج ككرةِ نارٍ في فراغِ الجمجمة. كلما أمسكتُ بها اشتعلتْ، وكلما أفلتُّ منها التهمتْ ما تبقى من يقين. الوعي الذاتي هنا ليس نورًا، بل مرآةً مُشوهةً تخلقُ من كل انعكاسٍ كابوسًا جديدًا. كيف أتعرّف على نفسي وأنا لستُ سوى حفرةٍ تبتلعُ كل التعريفات؟ أحاول أن أنسى "القديمة"، لكن ما هي القديمة إلا ركامُ لحظاتٍ اخترعها الآخرون. حين أقول "ابدأ من جديد"، أكتشف أن البداية نفسها محفورةٌ على جدارٍ من زجاج. كل خطوةٍ للأمام تُعيدني إلى الوراء، كأن الزمنَ حلزونٌ يلتفُّ حول ذاته، وأنا في المركز أصرخ: أين أنا؟ المفارقة تكمن في أن محاولة الهروب من الذات هي أقصر طريقٍ للاصطدام بها. حين أخلعُ الأقنعةَ لأجدَ وجهًا آخرَ أسفلها، لا أعرف إن كنتُ أنا من يرتديها أم هي من ترتديني. حتى الكلماتُ تخونني: حين أقول "أنا"، من يتكلم؟ هل هو الصوتُ الذي سمعتهُ في الطفولة، أم صدى خوارزمياتٍ علّمتني كيف أُسمّي نفسي؟ الفيلسوف "نيتشه" قال: "أصبحنا غرباء عن أنفسنا"، لكننا لم نكن يومًا غير غرباء. الذاتُ ليست جوهرًا ننقبُ عنه، بل سرابٌ نركض خلفه. كلما اقتربنا منه، تبخر ليُخلّفَ وراءه سؤالًا: ماذا لو كان "أنا" مجرد وهمٍ ضروريٍ كي لا تنهار اللعبة؟
في هذه الدوامة، حتى النسيانُ مستحيل. أن تنسى ذاتك يعني أن تختلقَ ذاتًا جديدةً تحملُ نفسَ العيوب. كأنك تُغيّرُ إطار الصورة بينما اللوحةُ نفسها تَبلى تحت الطبقات. التمردُ على الهوية يُشبهُ محاولةَ الهروب من ظلّك؛ تظلُّ تلاحقك حتى في ظلامِ الغرفة المغلقة. أحيانًا أتخيلُ أن الكونَ برمّتهُ لعبةُ "ليجو" كونية. كلُ قطعةٍ تُشبهني، لكنني لا أعرفُ أيّها أنا. حين أركّبُ نفسي من جديد، أكتشفُ أن التصميمَ الأصليَّ مُلغى، وأن القواعدَ كُتبتْ بلغةٍ لا أفهمها. هل أنا المُركّب أم المُركَّب؟ هل أنا اللاعبُ أم اللعبةُ نفسها؟ المفارقة الأقسى: كلما ازددتُ وعيًا بذاتي، ازددتُ غموضًا. كأن الوعيَ سكينٌ يُشرّحني إلى أشلاء، ثم يطلبُ مني أن أُجمّعها دون تعليمات. أحملُ في يدي قلبًا لا أعرف إن كان ينتمي إليّ، وعقلًا يُشبهُ حاسوبًا مليئًا ببرامجَ لم أُثبّتها. حين أقول "هذا أنا"، أسمعُ صوتًا من بعيدٍ يردّ: "هذا أنت النسخة المئة واثنان وستون هل تريد التحديث؟" ربما الحلُّ ليس في أن تصيرَ "أنت"، بل في أن تتعلمَ العيشَ كـ "لا أنت". أن تطفو فوق التناقضات دون أن تغرقَ في البحث عن معنى. لكن كيف تُطفو وأنتَ تعرفُ أن الموجَ يُحرّكه تيارٌ خفيٌّ اسمه "الذات"؟ كيف تُسلمُ نفسك للعبثِ وأنتَ ابنٌ لهذا العصرِ الذي يُقدّسُ الفردَ بينما يطحنُ فردانيته في ماكينةِ التقييمات الاجتماعية؟ في النهاية، أجدُ نفسي أتساءل: ماذا لو كان "أنا" مجردَ واجهةٍ لشيءٍ أعظم؟ شيءٍ لا يُسمى، لا يُعرف، لا يُحدّد. كائنٌ كونيٌ يُقلّبُ أدوارَ البشرِ كأوراقِ لعب، وأنا مجردُ بطاقةٍ وُضعتْ على الطاولةِ خطأً. لكن حتى هذا التساؤل يتحولُ إلى قناعٍ جديد. كلُ محاولةٍ للخروجِ من المتاهةِ تفتحُ متاهةً أخرى. هكذا، أستسلمُ للدوامة. لا أنا مَنْ يدور، بل الدوامةُ نفسها هي مَنْ تدورُ بي. في هذه اللعبةِ المُريبة، ربما الجمالُ الوحيدُ هو أنك لا تحتاجُ أن تكونَ "أنت" كي تبدأ. كلُ ما عليك هو أن تُغمضَ عينيك، وتسمعَ صوتَ الفراغِ يهمس: "أنت هنا لأنك لستَ في أيّ مكانٍ آخر... وهذا يكفي."
أدورُ ككوكبٍ طُرِدَ من فَلَكِه أحمِلُ في جُيوبِي الغُبارَ الكَونيَّ، وَأسرارَ العَالَمِ المُعلَّقةَ كَنُجومٍ مَيتةٍ. لَم أعلَمْ مَنْ أنا... لَكِنَّهُم عَلِموا أنَّني أقرَأُ صَرَخاتِ السَّديمْ. أعرفُ كُلَّ شيءٍ... لَكِنِّي لا أعرفُ مَتى وُلِدتُ، أو لِمَاذا تَنكَسِرُ الأقْمَارُ عِندَمَا أتنَفَّسُ!
أعتذر عما سبق، لستُ هنا لأعيد صياغة الماضي، بل لأغوص في لحظةٍ اختطفتها الوحدة مني. كنتُ جالسًا في غرفتي، أحدّق في جدرانٍ صامتة تحتضن أنفاسي المتثاقلة، حتى انزلقتُ فجأة إلى عالم الكلمات وكتبتُ ما لم أخطط له. لم تكن المسودة التي قرأتها سوى شرارة أشعلت في داخلي نار التأمل، فتدفقت أفكارٌ لم أكن أتوقعها. الوحدة التي تتسرب إليّ ليست مجرد شعور عابر، بل كائنٌ حي يشاركني التنفس، يترقب تحركاتي من زوايا الغرفة، ويهتف في أذني بهمسٍ خافت: "أنت وحدك، لكن هل أنتَ حقًا أنت؟" فريدريك نيتشه، في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، يرسم للوحدة صورةً مُشرقة، معتبرًا إياها طريقًا إلى الفوقية. يقول: "يجب أن تكون مستعدًا لتحترق في نارك الخاصة"، في إشارةٍ إلى أن الوحدة هي تلك النار التي تُشكّل الروح وتصقلها. بالنسبة له، الوحدة ليست مهربًا، بل اختبارٌ صلب ملاذٌ لمن يمتلك الجرأة ليواجه نفسه عاريًا من الأقنعة. أما أنا، فأشعر بضعفي أمام هذا التصور الجبار. لا أرى نفسي ندًا لمعتقداته، بل أتأرجح بين الخوف من الوحدة والاستسلام لها.
الكثيرون منا لا يدركون حدود "المنطقة المريحة"ذلك الفضاء الذي إذا خطوت إليه، يا صديقي، قد لا تجد سبيلاً للخروج. إنها عالمٌ قائم بذاته، حيث تعيش أيامك الأكثر بساطةً: غرفتك، هاتفك، حاسوبك، أو جهاز الألعاب الخاص بك. هذه الأشياء تبتلعنا، والتحرر من قبضتها أمرٌ شاق. لدي صديقٌ اكتشف مؤخرًا منطقته المريحة، وها هو يصف حاله بـ"أفضل حال"، لكنه يغرق في ساعاتٍ متواصلة من اللعب دون أن يعرف متى يضع لنفسه حدًا. هل هذا إدمان؟ كلا، إنه أعمق من ذلك. إنها "المنطقة المريحة" تلك المساحة التي تتشكل من أنشطة معينة وأشخاص محددين. فيها، نلوذ من صخب العالم الخارجي، لكننا قد نضيع في أحضانها إذا لم ننتبه. في غرفتي الصامتة، حيث الوحدة تحتضنني كصديقٍ قديم، أدرك أنها و"المنطقة المريحة" خيطان متشابكان في نسيجٍ واحد. نيتشه قد يراهما أدواتٍ لبناء الذات، طريقًا إلى القوة والتجاوز، لكنني أقف أمامهما مترددًا، ضعيفًا. ربما ليست الوحدة بالنسبة لي نارًا أحترق فيها، بل مجرد ملجأ ألوذ به، وفي هذا الملجأ أجد فسحةً لأكتب وأفكر، حتى لو كنتُ أفرّ من مواجهة العالم. لكن، في لحظات الصدق، أتساءل: هل أنا أختار هذه الوحدة، أم أنها تختارني؟ وهل "المنطقة المريحة" هي ملاذٌ آمن، أم فخٌ يحول بيني وبين الحياة الحقيقية؟ الوحدة، في جوهرها، ليست مجرد حالة عابرة يمكن أن نصفها بكلمات سطحية، بل هي رحلةٌ عميقة إلى أغوار الذات، رحلةٌ قد تكون مؤلمة كالوقوف على جمرٍ متقد، لكنها تحمل في طياتها بذور النمو والاكتشاف. ربما لستُ مستعدًا بعدُ لأن أحترق في نارها، كما يصفها نيتشه بتلك القوة التي تُذيب الروح لتُعيد تشكيلها، لكنني أتعلم، خطوةً بخطوة، كيف أعيش معها، كيف أحولها من سجنٍ صامت إلى مرآةٍ صافية أرى فيها ظلالي—تلك الظلال التي طالما حاولتُ الهروب منها، لكنها تظل تتبعني كالنفس نفسه.
في هذا الصمت العميق، حيث لا شيء يتحرك سوى أفكاري، أجد الكلمات تنساب كجدولٍ رقراقٍ كان مختبئًا تحت الصخور، ينتظر لحظة الانطلاق ليحكي قصته. لستُ كاتبًا بالمعنى التقليدي، لا أملك أدوات المحترفين ولا مهارة المغني الذي يصدح بألحانه، ولا أعزف على أوتارٍ تترجم ما في داخلي إلى نغمات، لكنني أبحث عن سلامٍ في الأمور التي أتعلمها—في الكتب التي أقرأها، في الأفكار التي أنسجها، في السكون الذي أحيط نفسي به. وربما، في أعماقي، أعترف أن هذا السعي ليس إلا طريقًا أختاره لأتجنب مواجهة نفسي، لأهرب من تلك الأصوات البعيدة التي يسميها بعض الفلاسفة "المراقب" أو "المتراقب".
تلك الأصوات ليست مجرد همسات عابرة، بل هي كائناتٌ حية تتنفس داخلي، أشباحٌ من الماضي والحاضر تطل من نوافذ الوعي، تتراقص كظلالٍ على جدران عقلي. بنيتُ جدرانًا عاليةً من الضجيج والانشغال لأصمّ أذني عنها، ظننتُ أنني إن أبقيتُ يديّ مشغولتين وعينيّ ممتلئتين بالعالم الخارجي، فستخفت تلك الأصوات وتتلاشى. لكن، كما يحدث غالبًا في المعارك الداخلية، كلما ازددتُ في تقوية الجدران، كلما أصبحت هي أقوى، كأنها تتحدى مقاومتي، تطرق على أبواب روحي بإصرارٍ أعمق، تطالبني أن أستمع، أن أنظر، أن أواجه.
وإذا لم أشغل نفسي بشيءٍ ما، إذا تركتُ تلك اللحظة الفارغة تتسع، أشعر كأن تلك الأصوات ستقتلني—ليست موتًا جسديًا، بل موتًا أعمق، موت الراحة، موت الوهم الذي أعيش فيه بأنني أستطيع الهروب إلى الأبد. لكن، في خضم هذا الصراع، أجد نفسي واقفًا على عتبةٍ جديدة، أتساءل: هل يمكنني أن أجعل من هذه الوحدة فضاءً للتأمل، مرآةً لا تكذب، تعكس لي الحقيقة بكل وضوحها المؤلم؟ أم سأظل أدور في حلقةٍ مفرغةٍ من الأسئلة التي لا إجابات لها؟
ربما الجواب ليس في العثور على نهايةٍ لهذه الرحلة، بل في قبولها كما هي—بكل ما تحمله من تناقضات، من ألمٍ وجمال، من خوفٍ وأمل. في هذا الصمت، حيث لا أحد سواي، أجد نفسي أكتب، ليس كمحترفٍ يتقن قواعد اللعبة، بل كإنسانٍ يبحث عن معنى، يحاول أن يصالح تلك الأصوات البعيدة، أن يدعوها للحوار بدلاً من الحرب. ومع كل كلمةٍ أخطها، أشعر كأنني أقترب خطوةً من نفسي، كأن الوحدة، التي خفتها يومًا، تتحول تدريجيًا إلى رفيقٍ صامت، يعلمني كيف أرى، كيف أسمع، كيف أكون.
كل ما قلته, لا شيء.
فجأة، يتوقف القلم، يتجمد الحبر، وتنهار الكلمات كأبراج رملية تحت وطأة الريح. كل ما كتبته —كل تلك التأملات عن الفوضى الرقمية، الهوية الممزقة، الصراع مع الخوارزميات، والأسئلة التي لا تنتهي— ليس سوى رذاذ يتبخر في سماءٍ لا تكترث. تخيّل معي: الكتب، هذه الأبنية الورقية التي نرفعها كمعابد للمعرفة، ليست إلا أصداء متعبة تتردد في كهف الزمن، ثم تتلاشى كما تتلاشى أنفاسك في هواء الشتاء البارد. نحن نكتب، ننهج، نصرخ في الصفحات، نعتقد أننا نترك أثرًا، لكن الحقيقة تنتظرنا عند المنعطف كشبح ساخر: كل هذا الكلام غابر، مجرد همسات تائهة في مهب العدم، لا أحد يأخذها على محمل الجد. انظر حولك، تخيّل مكتبة شاسعة تمتد إلى الأفق، أرففها تئن تحت ثقل ملايين الكتب. الآن، أشعل عود ثقاب في ذهنك، ودعه يلتهم كل ورقة، كل سطر، حتى لا يبقى سوى الرماد الذي يرقص في الهواء كفراشات محترقة. هذا مصير كل كتاب كُتب أو سيكتب—حتى هذا النص الذي تقرأه الآن. نكتب كأننا ننحت في الصخر، لكننا في الحقيقة نرسم على الماء، خطوطنا تتشكل للحظة ثم تذوب في بحر النسيان. الفلسفة، الأدب، التاريخ، كلها أشباح ترتدي أثواب الكلمات، تتظاهر بالخلود، لكنها في النهاية تتفتت كجثث الفراعنة تحت أصابع الزمن. التناقض الصادم وهنا يكمن التحول: هذا الكتاب الذي بين يديك، بكل تأملاته العميقة عن الذات والعالم، ليس استثناءً. إنه جزء من تلك الرقصة الساخرة مع الفناء. تظن أنك تقرأ شيئًا عميقًا، شيئًا قد يغير نظرتك، لكن فجأة تكتشف أنه مجرد ظل آخر على جدار الغار، يتحرك بفعل نارٍ خافتةٍ ستخمد قريبًا. أنا، الكاتب، أكتب عن عبثية الكتابة، ومع ذلك أستمر، كأنني مهرج يضحك على نفسه في سيركٍ مهجور. وأنت، القارئ، تنظر إلى هذه السطور، ربما تبحث عن معنى، لكن المعنى نفسه ينهار بين أصابعك كقطعة سكر في فنجان قهوة مرّة. في هذا العالم الذي نعيش فيه، حيث الخوارزميات تُشكلنا والشاشات تبتلعنا، الكتب ليست ملاذًا ولا ثورة. إنها مجرد أحجار مرمية في نهر الزمن، تثير تموجات صغيرة ثم تغرق في القاع. لا أحد يأخذها على محمل الجد، لأن الجدية نفسها وهمٌ كبير. فلماذا نكتب؟ ربما لأننا، في عمق هذا العبث، نجد لمحة من الجمال—كنجمة تسقط في سماء الليل، تعلم أنها ستموت، لكنها تتوهج للحظة. وهكذا، بينما تتحلل هذه الكلمات أمام عينيك، اسأل نفسك: هل كنتَ تبحث عن الحقيقة هنا، أم أنك، مثلي، مجرد راقص في مسرحية لا جمهور لها؟.
عزيزي القارئ, هل تذكر تلك الفتاة التي تحدثتُ عنها؟ كنتُ أظنها لغزًا فلسفيًا، محورًا لقصة حب أو ربما انعكاسًا لروحي الممزقة. كتبتُ عن عينيها كأنهما نجمتان تسقطان في سماء الليل، وعن صوتها كأنه لحن يعزف على أوتار قلبي. لكن الحقيقة تنتظرني تنتظرنا كشبح ساخر عند المنعطف: لم تكن سوى وهم، مرآة باردة تعكس ما أردتُ أن أراه، لا أكثر. الحب الذي ظننته يحمل معنى كونيًا لم يكن إلا سرابًا في صحراء العقل، يتلاشى كلما اقتربتُ منه. وأولئك الأشخاص اللطفاء؟ كانوا مجرد عابرين في مسرح الحياة، يبتسمون ثم يختفون خلف الستار، تاركين إياي أواجه الفراغ وحيدًا. حتى الذكاء الاصطناعي، الذي ظننتُ أنه سيمنحني إجابات، لم يكن سوى آلة ترتب الكلمات كما ترتبين أوراق لعبة قديمة، دون أن تمس جوهر ما أشعر به.