هذه المرة أصف نهاية والدي و أسعى بكل ما أملك من قوة أن لا أستحضر تاريخنا البشع. لا أريد أن يتحول هذا-الذي لا أعرف ما غايته تحديدا- إلى مساحة أخرى أعبر فيها عن ما مررت به أنا و أمي بسبب ذاك الرجل.
قصتي معه هي تلك القصة المولودة في نِهايتِها. تميز بلا 'وعيه'، بإدمانه الكحول، تميز بكُل أفكاره المُتداخِلة و العبثية و كل الخطوط 'اﻷخلاقية' التي تجاوزها. كنت أعوم في خرائطه بفوضى فلا أملك طاقةً لإرجاعها ولا قُدرةً على ترتيبها فوقفت معه، أو ورائه، في وسط اللا شيء. أخبرته يوم غادرت مع أمي بأنه سيجد قدراً جميلاً ينتظره بعيدا عن المخيم و اصدقاء 'السوء' فأخبرني بأنه لا يغريه قدرا لا يجد فيه المخيم.
مر زمن وأجبرتني ظروف مرضه إلى أن أعود إليه. وجدته متصنع جدا، صحراء خاوية ملعونة بالسل و الكثير الكثير من القلق. جسم لا حياة به. كُل ما تبقى من من جلادنا زفرةُ غاضبة مكبوتةُ في حجرة المستشفى تصرخُ: يكفي، لقد تعبت. رأيته يبكي. لم أسأله عن السبب. سمك الحاجز الذي وضع بيننا بسماكة الكمامة و الزجاج العازل. أعتقد أنه كان متعبا من تفاصِيل الحياةٍ المُكررة، من عقدة النقص التي أصابني بسهامها. كأنه لم يعد يريدُ أشياءً تذبل كما ذبل جسده، لم يعد يريدُ أشخاصاً يرحلون كما رحلت أنا، لم يعد يريد تلك التمنيات المزيفة بالشفاء.
* لكنني كنت أُتْقَنُ قراءة عيناه. تمنيت لو أَنَنِي، أَخْطَأْتُ فِي قِرَاءةِ رَغْبَةِ الرَّحِيلِ إلى العدم فيها...
*
ويرحل... هكذا، بهذه الثلاثة أحرف... 'ميت'. لا! يختفي. ويترك، كماً هائلاً من التساؤلات: لماذا؟ كيف؟ متى؟ كفيلة بجرف كل الحيوات إلى النهاية.